السّلام عليكم و رحمة الله و بركاته
الصّوم مدرسة الأخلاق
بقلم الشّيخ الفاضل :
عبد الخالق ماضي الجزائري
- حفظه الله و رعاه -
يجتهد المصلحون و أصحاب الدّعوات و المعتقدات في وضع أسس للتّربية و قواعد و نظريات للأخلاق ، و يسعون جاهدين لغرس المبادىء و القيم و المثل في نفوس النّاشئة و يحاولون بكلّ الوسائل و بشتّى الطّرق و الأساليب إصلاح المجتمع ، و لكنّ كثيرا ما تضيع تلك الجهود و تتلاشى تلك القواعد و النّظريّات و تذهب دعواتهم و صيحاتهم أدراج الرّياح ، و هكذا تتعاقب الأجيال و يتفاوت المصلحون و أصحاب الدّعوات و لكنّ سنّة الله في الكون أنّ ما يؤسّسون عليه بنيانهم صائر على الخرور و الزّوال .
و لكنّ دين الله الخاتم الذي ارتضاه الله للبشريّة جميعا ديناً خالصاً و لن يقبل الله من أحد ديناً سواه و هذا منذ بعثة محمد صلى الله عليه و سلم إلى أن تقوم السّاعة كما قال الله تعالى : { و من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين } [ آل عمران : 75 ] ، جعل من نسكه و عباداته مدارس للتّربية و الأخلاق و معاهد لإعداد النّفوس و إعطاء الدّروس و العبر ، فجعلها الله سبحانه كلّها تؤسّس الشّخصيّة السّويّة للمسلم و تحافظ على هذه الشّخصيّة و تعصمها من الهلاك و الضّياع ، فالشّهادتان مدرسة للتّربية و الصّلاة مدرسة للتّربية و الزّكاة مدرسة للتّربية و الحجّ مدرسة للتّربية و هي مجتمعة مدرسة للتّربية ترعى كلّ جانب من جوانب المسلم ، و تصقل تربيته و أخلاقه .
و نريد في هذا المقام أن نتحدّث عن الصّوم باعتباره مدرسة للتّربية و الأخلاق و هو الرّكن الرّابع من أركان الإسلام كما في حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلاّ الله و أنّ محمدا رسول الله و إقام الصّلاة و إيتاء الزّكاة و صوم رمضان و حجّ البيت " (1) .
و هو زيادة على كونه عبادة بدنيّة روحيّة صافية ، فإنّه فرض في هذا الشّهر الكريم تكريماً للمؤمن و تشريفاً له بهذه العبادة السّامية في شهر التّنزيل .
كما أنّه بجانب ذلك تكريم لهذا الشهر حيث جعله الله شهر القرآن و نزول الوحي بالكتب و الرّسالات التي ختمها بنزول القرآن الكريم .
و هذا أيضاً تكريم لهذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه لأنّه تنزيل من حكيم حميد ، فكان شهر التّنزيل ، هو شهر الصّوم و إعلان العبوديّة الخالصة لله العظيم .
و فوق ذلك كلّه هو نوع من الشّكر و الثّناء من العباد لله ربّ العالمين الذي نبّأ رسوله بنزول الوحي عليه في هذا الشّهر ، و أرسله بهذه الرّسالة التي جاءت لتنقذ البشريّة على اتّساعها و امتدادها منذ أن نزلت و فرض الصّوم حتّى تقوم السّاعة .
و لكن كيف يكون هذا الثّناء و هذا الشّكر إذا لم يكن في صورة تليق بذات الخالق العظيم و ترفع من قيمة الشّاكر لله كما ترفع من شأن الوسيلة و ميقاتها ؟
فهي أفضل طاعة و أعظم إنابة و أكرم استجابة و قرب إلى الله تعالى ، لذلك جاء في الحديث الصّحيح : " كلّ عمل ابن آدم يضاعف ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله ، قال الله عزّ و جلّ : إلاّ الصّوم فإنّه لي و أنا أجزي به " (2) .
و صوم رمضان بجانب أنّه يربّي الرّوح و البدن معاً و يربّي المسلم الصّائم على النّظام و الطّاعة و الاستقامة ...الخ ، فإنّه أيضاً يغرس في كيانه الرّحمة و العطف و الإحسان و البرّ و رقّة القلب و المشاعر و يزوّده بالتّقوى فهي أعظم زاد للمسلم ، قال الله تعالى : { و تزوّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى و اتّقون يا أولي الألباب } [ البقرة : 197 ] .
إنّ أفضل و أهمّ ما يساعد المؤمن و يفتح له مغاليق الأمور هو الصّبر ، فمن رزق الصّبر في حياته رزق الخير كلّه ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ما رزق عبد خيراً له و لا أوسع من الصّبر " (3) .
و الصّبر أفضل ما يعين المرء على العبادة و مكابدة العيش و مشاقّ الحياة ، كما أنّه يعين على الطّاعة و مقاومة هوى النّفس و يبعدها عن الشّهوات و النّزوات ، و يرتفع بها عن مهاوي الرّذائل و مساوىء الأخلاق ، و قد سمّي شهر رمضان بشهر الصّبر كما في الحديث الصّحيح : " صوم شهر الصّبر و ثلاث من كلّ شهر يذهبن وحر الصّدر " (4) .
فإذا جاء الصّبر و شهر الصّبر ذهب وحر الصّدر الذي يحرق النّفس و يبدّد الأمن و الرّاحة و يلهب الصّدر و يجعل الوساوس و الهواجس تسيطر على صاحبها ، أصبح المسلم الصّائم من أهل الجنّة التي وصف الحقّ أهلها بذلك الوصف العظيم : { و نزعنا ما في صدورهم من غلّ إخواناً على سرر متقابلين } [ الحجر : 47 ] ، فإذا جاء الصّبر و سكن في أعماق النّفس ، ذهب وحر الصّدر و انقشع غلّ الصّدر و الحسد و استمسك المؤمن بكلّ ما يمنحه القوّة و الهمّة و العزم على قهر النّزوات و كبح جماح الشهوات ، و ابتعد عن الذّنوب و المعاصي و الموبقات و ذهب عنه الضّيق و الضّجر و الغيظ و الغضب ، و القسوة و الغلظة و الجفوة و الحمق ، فنال الرّضا و القناعة مع لين الجانب و حسن الجزاء كما جاء في الحديث الصّحيح : " من كظم غيظًا و هو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق ، حتّى يخيّره من الحور العين يزوّجه منها ما شاء " (5) .
فإذا أصبح المسلم واسع الصّدر يميل إلى العفو و الغفران و امتلأ كيانه بالرّحمة و الشّفقة على من سواه امتلأت نفسه بالقناعة و الرّضا و امتلا بالرّفق الذي يزين المسلم و ينشر بهاءه و وقاره ، قال رسول اللله صلى الله عليه و سلم : ً" ما كان الرّفق في شيء إلاّ زانه و لا نزع من شيء إلاّ شانه " ، و قال : " من أعطي حظّه من الرّفق فقد أعطي حظّه من الخير و من حرم حظّه من الرّفق حرم حظّه من الخير " (6) .
فمن رزق الصّبر و ذهب عنه وحر الصّدر و امتلأ بالرّفق و ابتعد عن الفحش و التّفحّش فما يكون ردّه إن جهل عليه أحد أو سبّه ؟
" إنّي امرؤ صائم ... إنّي امرؤ صائم ... إنّي امرؤ صائم " ، إنّها إجابة تنمّ عن ضبط النّفس و كبح جماحها ، كما أنّ هذه الإجابة تحمل هذا المفهوم و هذا المعنى بكلّ دقّة و تحديد أي أنّني مسلم صائم بعيد عن الغيظ و الغضب و الجهل و البذاءة ، بعيد عن الفحش و التّفحّش قريب من الرّفق و الرّحمة و لين الجانب و حسن الخلق ، فكان هذا الصّوم مدرسة الخُلُق الذي يثقل ميزان المسلم يوم القيامة كما قال صلى الله عليه و سلم : " خير ما أعطي النّاس حسن الخلق " (7) .
و لم يترك الإسلام المسلم أن يقابل الجهل و السّبّ و الشّتم بمثله بل أمر المسلم الصّائم بالابتعاد عن كلّ ما يجرّ الغضب و الغيظ و يدفع المسلم إلى مزالق الشّرّ و السّوء و ينتقص من أدب المسلم و أخلاقه ، فنهى عن قول الزّور و العمل به ، فقد قال صلى الله عليه و سلم : " من لم يدع قول الزّور و العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه " .
هذا في صيامه إلى جانب تلك القاعدة العامّة التي تحدّد منهج المسلم و سلوكه في الحياة و التي أعلنها سيّد الخلق في قوله : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده و المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " .
و ليس هذا فقط ، و لكنّ حسن الخلق الذي غرسه الصّيام في نفس المسلم إلى جانب الأركان الأخرى لهذا الدّين تضاعف له الأجر و تزيد من رصيده فيصل به إلى ذروة التّربية كما يصل به إلى أعلى مكانة ينالها المؤمن في الآخرة ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق و إنّ صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصّوم و الصّلاة " (8) .
فالمؤمن الذي تربّى في مدرسة الصّوم علاوة على مدرسة الإسلام الكبرى كأنّه في صلاة دائمة و صيام دائم بما اكتسبه من حسن الخلق و جمال التّربية و منهج الاستقامة و الطّاعة .
فهنيئاً للمسلم بالصّوم و بهذا الشّهر الكريم .
___________________
(1) متّفق عليه .
(2) صحيح الجامع الصّغير : (4414) .
(3) انظر : " السلسلة الصّحيحة " : (448) .
(4) صحيح الجامع .
(5) تخريج المشكاة : (5088) .
(6) السّلسلة الصّحيحة : (2/49) و هو حسن .
(7) السّلسلة الصّحيحة : (1049) .
(8) صحيح الجامع : (5602) .
مجلّة منابر الهدى - السّنة الأولى - العدد الأوّل - رمضان 1421هـ .
منقول من منتديات التصفية والتربية السلفية