بسم الله الرحمن الرحيم
فلا يخفى على أولي الأحلام والنهى منزلة أهل العلم والفضل, لاسيما أولئك الذين شابت لحاهم على التوحيد والسنة, ولست هنا بصدد ذكر الفضائل ولا تعداد المناقب , وإن كان في ذلك بيان لما يتفضل الله به على عباده, وإنما أحببت إتحاف الأخوة الفضلاء والأحبة العقلاء ببيان شيء مما أنعم الله على أهل اليمن به مؤخرا وهي زيارة الشيخ الفاضل والعلامة الجليل والمربي الناصح أبي عبد العزيز عبيد بن عبد الله بن سليمان الجابري , حفظه الله وسدده.
هي محاولة يسيرة لبيان شيء مما حصل في زيارة شيخنا الجليل لبلاد اليمن , حتى نشحذ الهمم, حين نعلم أن شيخا في العقد الثامن من عمره كفيف البصر , لا زالت همته ترنو به إلى تبليغ دين الله والحث على التمسك بالسنة, وأتذكر هنا مانقل عن العلامة ابن باز حين سألوه عن نشاطه فقال : "إذا كانت الروح تعمل فالجوارح لاتكل", فهي نبذة يسيرة لعل التأريخ أن يحفظها, فيستفيد منها طلاب العلم, وإليكم شيء من هذه الرحلة :
الوصول :
وصل الشيخ حفظه الله إلى مطار صنعاء في حوالي الساعة الثالثة فجرا من يوم الأحد الثاني من شهر رجب, وكان في استقباله في المطار جمع غفير من طلبة العلم والمشايخ الفضلاء على رأسهم الشيخ الوقور سالم بامحرز والشيخ الفاضل عبد الرحمن بن مرعي, والشيخ الفاضل عبد الله بن مرعي , وممن كان في الاستقبال من الأخوة الفضلاء هاني بن بريك ومحمد بن غالب العمري وعلي الحذيفي وعبد الرؤوف عباد, وعرفات بن حسن, وياسين العدني وأحمد مشبح وفهد العدني وجمع من الأخوة الفضلاء الذي جاءوا لاستقبال الشيخ.
ولقد رافق الشيخ عبيدا الأخ الفاضل والداعية النبيل فؤاد بن سعود العمري.
الشحر :
كان التحرك من مطار صنعاء حوالي الساعة الخامسة والنصف فجرا من نفس اليوم, وتم الوصول في الساعة الثامنة صباحا مع نزول في مطار الغيضة قبل ذلك, وكان في الاستقبال جمع من طلبة العلم الفضلاء من أهل الشحر وما حولها.
الدورة العلمية في دار الحديث بالشحر أعزها الله:
لم يكن الجميع يتوقع ذلك الحضور الهائل والجمع الكبير الذي فاق الجمع الذي حضر في زيارة الشيخ الأولى ,حيث توافد طلبة العلم من صنعاء وعدن ولحج ولودر وشبوه وأبين وتعز والحديدة إلى مركز دار الحديث ينهلون العلم من شيخهم الزائر – حفظه الله – وهذا عدا ذلك العدد الكبير من مناطق حضرموت كالديس والمكلاء وسيئون والحامي وقصيعر والغيل وغيرها من مناطق حضرموت الداخل وحضرموت الساحل, ومن رأى ذلك الجمع تذكر " هذا الملك لا ملك هارون".
وكانت الدروس التي ألقيت في الشحر هي كتاب شرح السنة للمزني , وكتاب أصول السنة للإمام أحمد وكتاب الطلاق من بلوغ المرام , مع الجلسة العلمية لاستقبال الزوار بعد صلاة العشاء والتي يبتدئها الشيخ بكلمة قصيرة تعقبها الأسئلة , وهذا عدا تلك الفتاوى التي تعرض على الشيخ في غير هذه الأوقات, لقد عاش من حضر هذه الأيام حياة ممتعة بين علم وتدارس وتوجيهات وفوائد , وزين ذلك حسن أدب الشيخ وحسن منطقة مع مواقف يداعب فيها الشيخ طلابه بسعة صدر وعفة لسان.
وفي يوم الخميس كان اللقاء الختامي بعد الفجر والذي ابتدأ بقراءة شيء يسير من شرح فضيلة الشيخ عبيد على كتاب الأصول الستة,تولى القراءة الأخ محمد بن غالب العمري وهو كلام يتعلق بحقوق الحاكم على المحكوم والعكس وأعقبته أسئلة حتى الساعة السابعة.
ثم كانت المحاضرة بعد صلاة الظهر في الديس الشرقية وقدم المحاضرة الأخ الفاضل نبيل الحمر, وألقى الشيخ على المسامع محاضرة قيمة فيها الحث على التمسك بالسنة والدعوة إليها, ثم كان الانطلاق إلى المكلا والتي كانت المحاضرة فيها بعد صلاة المغرب في مسجد السنة بديس المكلا وكان المسجد ممتلئا حتى اتصلت الصفوف إلى الخارج .
ابتدأت المحاضرة بتقديم الشيخ الفاضل الوقور سالم بامحرز كان فيها الترحيب بالشيخ وذكر نعمة الله على أهل السنة بأن جعل فيهم علماء يرجع إليهم يرشدون الناس إلى الهدى, ويحذرونهم من مهاوي الردى, ثم ألقى الشيخ عبيد محاضرته والتي كانت بعنوان "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة" بين فيها قواعد مهمة من قواعد أهل السنة حال الفتن وطرق التعامل مع المخالف, وذكر من الآثار الواردة عن السلف بالتمسك بالسنة والحث عليها الشيء الكثير.
ثم بات الشيخ ليلته ومن معه من المرافقين في المكلا وأصبحوا إلى عدن.
سار الشيخ وسارت معه ثلاث سيارات وباص وحال من بقي يقول:
هواي مع الركب اليمانين مصعدٌ ... جنيبٌ وجثماني بمكة موثق
وتوقف الركب في مدينة أحور حيث كان الإفطار , وكان في استقبال الشيخ أهل السنة في أحور والذين طلبوا كلمة من الشيخ في مسجدهم ,ولما علم الشيخ مايعانونه من براثن الجهل والتصوف عندهم , كان ذلك دافعا له على أن يلقي كلمة في مسجدهم فكان الأمر.
الوصول إلى عدن :
ثم توجه الركب إلى عدن , وماأدراك كيف كانت عدن إذ ذاك, كان الاستقبال للشيخ في ضواحي عدن ووصل الشيخ إلى مستقره فيها وقد توافدت الجموع وخرج الشيخ إلى صلاة الجمعة خطيبا في مسجد المهاجرين في المنصورة فيالله من تلك الجموع رجالا ونساءً, ولقد تزاحم الناس وانسدت الطرق الموصلة الى المسجد من أناس حضروا من لودر!! وأبين !! ولحج, وأعود فأقول " هذا الملك لا ملك هارون".
ثم ابتدأ الشيخ درسه في كتاب الإيمان من صحيح البخاري من بعد صلاة العصر في مسجد الأنصار والتي توافدت فيه الناس من بعد صلاة الفجر حتى ضاق الناس فيه وجاء رجال الأمن ينظمون سير السيارات , ولما أصاب الناس من زحام وضيق اضطروا إلى الخروج إلى الميدان الكائن أما المسجد وكان درس المغرب فيه, وقدر من كان حاضرا للدرس بما يقارب الستة الآف شخص بل يزيدون.
ثم كانت هناك كلمة يسيرة بعد صلاة العصر في لحج في مسجد الخطيب وهو المسجد القائم عليه الأخ الفاضل عبد الغفور اللحجي, ومن ضمن ما بلغني أن الأخ عبد الغفور قال في تقديمه للشيخ في كلمة تعبر عن الفرحة العظيمة بزيارة الشيخ : "لقد كان هذا حلما", ونعم صدق فقد كان حلما مجيء الشيخ إلى عدن ولحج طالما انتظره الناس , وطالما أحبوه , إذ ذاك هو محبتهم لعالم من علماء الإسلام في العقد الثامن من عمره, رزقه الله طول العمر وحسن العمل.
ثم كانت المحاضرة بعد المغرب في مسجد السنة في الفيوش وهي المنطقة التي سيبنى فيها مركز أهل السنة والذي يقوم عليه الشيخ الخلوق أبو عبد الله عبد الرحمن بن مرعي وفقه الله.
ليست الكثرة بعلامة على الحق, كما أنه ليست كل قلة دليل على ذلك, ولكن من حضر إلى محاضرة مسجد السنة هذه رأى تلك الأرض الكبيرة التي غطت عليها مساحات من البشر, وحلتها كعقد فريد تلك الجموع الوافرة من السيارات والتى يخيل لمن حضر أنه قادم على مصلى العيد, بل أكبر!!.
قدم الشيخ عبد الرحمن بن مرعي للمحاضرة بمقدمة فيها شكر الله على النعم, وترحيب بالشيخ الوالد, وبيان لفضل العلماء, ثم ألقى الشيخ عبيد حفظه الله محاضرته والتي كانت بعنوان " لايصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" أفاد فيها وأجاد, وأخبرني من حضر المحاضرة بأن توافد الناس للمحاضرة كان من بعد صلاة الظهر مباشرة, وقدر البعض الحضور بعشرة آلاف وقدره بعضهم بأكثر من ذلك.
ثم كان اللقاء الختامي في مسجد الإيمان في عدن والذي يقوم عليه الأخ عبد الله بن سعيد, وذلك بعد صلاة الفجر, والذي قرئت فيه أصول السنة للرازيين قرأها الأخ الفاضل أبو علي هاني بن بريك , وأجاب الشيخ بعد ذلك على ماتيسر من الأسئلة, ثم كان الإفطار والانطلاق إلى الحديدة مرورا بتعز.
زيارة الحديدة :
انطلقت السيارة التي تقل الشيخ ومن معه من عدن ترافقهم مايقارب سبع سيارات وثلاث باصات , ونزل الشيخ في تعز للراحة والغداء , والتقى في تعز ببعض طلبة العلم, ثم كان التحرك إلى الحديدة , حيث كان الوصول قبيل مغرب يوم الأحد إلى دار الحديث في الحديدة والتي يقوم عليها الوالد الكريم ذو الخلق الرفيع أبو إبراهيم محمد بن عبد الوهاب الوصابي حفظه الله , وقدم الشيخ محمد للمحاضرة بمقدمة ماتعة ذكر فيها أن هذا المسجد قد زاره من قبل عالمان فاضلان هما العلامة المحدث ربيع المدخلي والعلامة المحدث أحمد بن يحي النجمي حفظهما الله ( ) , أما الشيخ ربيع فقبل مايقارب ربع قرن من الزمان, وأما الشيخ النجمي فكانت زيارته بعد وفاة العلامة الوادعي رحمه الله, ثم ألقى الشيخ محاضرته وكان المسجد ممتلئا بل زاد الحضور حتى فرشوا للمصلين خارج المسجد صفوفا عديدة.
ثم بعد المحاضرة قام الشيخ المحمدي وفقه الله بكلمة شكر فيها الشيخ عبيدا, وذكر هذه النعمة على أهل السنة, بعد انتهاء كلمته حفظه الله طلب الشيخ عبيد أن يتكلم فكان مما ذكر نعمة الله على أهل السنة في اليمن ومدى ما كان لدعوة الشيخ مقبل من أثر بفضل الله تعالى, ثم بين أن هذه الجموع وما حصل من الثناء له إنما هو لعدم معرفتهم بعبيد الجابري , وقال : أشهد الله ومن حضرني من الملائكة أني دون ما يقال فيّ, وأني على غير مايظنه الناس فيّ, أو كما قال حظه الله, وبكى حفظه الله وأبكى الناس حتى أخبرني من رأى الشيخ محمدا أن الشيخ علاه البكاء ومكث الناس يبكون حتى انتهوا من صلاة العشاء,وهكذا تواضع العلماء ضرب الشيخ عبيد دروسا في الأدب والتواضع وهضم النفس ليكون تأريخا تستفيده الأجيال, فلله دره وعلى الله أجره.
زيارة مفرق حبيش :
ثم كان المبيت في تعز وفي الضحى كانت انطلاقة الشيخ إلى مفرق حبيش حيث المركز القائم عليه الشيخ عبد العزيز البرعي وفقه الله .
وصل الشيخ إلى مفرق حبيش قبيل أذان الظهر وكان في استقباله في مسجد المركز الشيخ عبد العزيز البرعي سدد الله خطاه, وقام بالترحيب بالشيخ والتقديم له , ثم تكلم الشيخ بكلام جميل بيّن قواعد مهمة من قواعد أهل السنة في الرد على المخالفات وكذا في انه لا خلاف في المواطن التي يكون فيها الاجتهاد, وأن الرد على المخالف لابد أن يكون ردا علميا بعيدا عن السباب والشتام والألفاظ النابئة , وأن النظر إلى المخالف يكون بنظرتين شرعية وكونية. وكان المركز قد وصل الحضور فيه إلى النصف, وبعد صلاة الظهر أكمل الشيخ محاضرته, ثم ودع الشيخ البرعي الذي كان مصرا على بقاء الشيخ لولا اعتذار الشيخ حفظه الله بادراك موعد معبر, كما أخبرت ممن حضر .
زيارة مركز دار الحديث بمعبر :
وصل الشيخ ومن معه إلى معبر في حوالي الساعة الثالثة عصرا, وكان في استقباله في غرفة الضيافة الشيخ الفاضل محمد الإمام ومن معه من الأفاضل كالأخ الوالد جبر وفقه الله وبقية الحراس, وبعد الغداء كانت المحاضرة للشيخ بعد صلاة العصر, مع العلم بأن الشيخ محمدا ومن معه من الحراس حفظ الله الجميع أصروا على أن تكون المحاضرة بعد المغرب لأن الإعلان تم عنها بعد المغرب , ولكن الشيخ اعتذر عن ذلك لكون رحلته لابد فيها من الحضور في الثامنة, وألقيت المحاضرة بعد صلاة العصر, وكان المركز ممتلئا ولله الحمد.
ثم ودع الشيخ الإمام محمد شيخنا الجابري وأحاطت تلك الجموع بسيارة الشيخ التي يستقلها, وهم يودعون عالما سلفيا وأبا حنونا.
الوداع :
وانطلق الشيخ إلى صنعاء ثم إلى المطار ومعه الجموع من أهل صنعاء وعدن ولحج وغيرها من المناطق يودعونه ويودعهم وهو يدعو لهم بالثبات على السنة, ولا زال من أول رحلته وهو يقول : "جمعنا الله في مستقر رحمته كما جمعنا وإياكم على طاعته" فلله دره من عالم , وعلى الله أجره من صابر متفاني في الدعوة إلى الحق, ولله هذا الخلق الرفيع الذي اتصف به, فحفظ الله جوارحه, وغفر له ذنبه.
ذهب الذين أُحبُّهُم فَرَطاً ... وبقِيتُ كالمغمُور في خَلْفِ.
هذه نبذة مختصرة من زيارة الشيخ الذي رأيناه فأحببناه, ونعظمه ونجله إجلال ذي الشيبة المسلم, وإجلال العالم العامل, وإجلال حامل القرآن, وإجلال الداعية الصبور, دون غلو فيه ولا مجاوزة, ولا تفريط .
فاللهم احفظ شيخنا في حله وترحاله , واحفظ عليه جوارحه, واصرف عنه كيد الكائدين , وسفه السفهاء, وثبتنا وإياه حتى نلقاك.
وكتبه : محمد بن عبد الله آل مفرح
منقول من منتديات سبيل السلفية