لعله بلغكم ما تناقلته بعض وسائل الإعلام عن الدكتور يوسف القرضاوي قوله: « إن إلقائه لخطبة الجمعة في ميدان التحرير بمصر ليست إيذاناً ببدء دولة دينية، بل على النقيض من هذا الكلام يأتي توجهي لإقامة دولة مدنية، لكن بمرجعية إسلامية، وهذا لا يعيب دولتنا، فكثير من الدول اختارت الاشتراكية كمرجعية وأخرى اختارت القومية... فأنا ضد الدولة الدينية تماماً، فلسنا دولة مشايخ ولا ملالي» أضف إلى ذلك أن القرضاوي يقول عن هذه المظاهرات والاعتصامات الحاصلة في عدة دول عربية: «إنها جهاد في سبيل الله»
الجواب:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد:
هذا الكلام خطير جداً، فالعلماء الذين يعرفون سيرة القرضاوي في مناصرة كثير مما جاء به الأعداء لا يستغربون هذا؛ لما له من سوابق من مثل هذا الاتجاه، كالدعوة إلى حوار الأديان، التي حقيقتها وحدة الأديان ومؤاخاتها. مما جعل شيخنا الوادعي يقول: «القرضاوي قرض نصف الدين» وأنا أقول: «هو ساع في قرض النصف الباقي» فكلمة القرضاوي فيها أمران:
الأول: قوله: «توجهي لإقامة دولة مدنية» وقد ظنَّ من ظن أن القرضاوي جعل كلمة (دولة مدنية) بمقابل (دولة عسكرية) يعني: أنه لا يريدها دولة بحكم عسكري، وإنما بحكم مدني، ولكن لما القرضاوي مراده بكل إيضاح بقوله: «أنا ضد الدولة الدينية تماماً» زال هذا الظن وظهر المراد بدون لبس ولا خفاء، واقشعرت جلود المؤمنين من خطر هذه الكلمة.
والحاجة هنا ماسة إلى بيان ما هي الدولة المدنية؟
الدولة المدنية: أي: العلمانية على طريقة الغرب.
ولا ينسى القراء أن الأعداء يتحينون الفرص لفرض السيطرة على المسلمين، ففي الأمس كانت السيطرة للاتحاد السوفييتي، حتى إن كثيراً من الأحزاب في الوطن العربي كانت تجعل شعاراتها ناطقة بالانتساب للاتحاد السوفييتي، القائم على الشيوعية الاشتراكية، ففي جنوب اليمن: الحزب الاشتراكي اليمني، وفي العراق: حزب البعث الاشتراكي العربي، وفي سوريا: حزب البعث الاشتراكي السوري، أو تنتسب إليه بالمضمون كما حصل من قِبَل حزب جمال عبد الناصر، ولما سقط الاتحاد السوفييتي سعى الغرب الأمريكي والأوروبي بقيادة أمريكا إلى السيطرة على العالم الإسلامي خصوصاً العرب، ومعلوم أن الغرب الأوربي والغرب الأمريكي يسيران على العلمانية، فأراد الغرب أن يتحول انتساب وسير الدول العربية والإسلامية إلى العلمانية الغربية، وحتى لا يكون هذا التحول مفضوحاً؛ جعله الأعداء في مخططاتهم مبلسماً فقالوا: دول عربية مدنية، والتمدن المذكور قد نُص عليه في مؤامرة أمريكا الكبرى على العرب، المعروفة بمشروع الشرق الأوسط الكبير، كما في كتاب «مشروع الشرق الأوسط الكبير» (ص/98) وقد أوضحنا هذا في كتابنا «نفوذ التنصير في المسلمين بالأموال»
ومما يدل على أن المراد بالدولة المدنية (العلمانية على طريقة الغرب): أن العلمانيين الذين هم من صناعة الأعداء في الوطن العربي وغيره يقولون: «الدين لله، والوطن للجميع» والمراد بالدين عندهم: الصلاة والصيام. والمراد بالوطن للجميع: أن أمور المسلمين من سياسة واقتصاد وأخلاق وغير ذلك يحكمها العلمانيون، وهذا هو مضمون الشعار المعلوم (فصل الدين عن الدولة) وهو مضمون المادة في أغلب الدساتير العربية التي تنص على أن «الشعب مالك السلطة ومصدرها» وهو مضمون قول العلمانيين: الدين علاقة بين العبد وربه، والوطن للجميع، فكل هذه التعريفات والشعارات العلمانية اختصرت إلى (دول مدنية) ويؤكد أن المراد هذا قول القرضاوي: «أنا ضد الدولة الدينية» فهذا تأكيد وإيضاح للجملة التي قبلها لأن معناه: أنا لا أقبل دولة تحكم بالشريعة الإسلامية، ولكن أقبل دولة تحكم بالديمقراطية الغربية.
الثاني: قول القرضاوي: «أنا ضد الدولة الدينية» هذا يوافق قول العلمانيين: إن الشريعة الإسلامية لا تصلح لهذا العصر، فلماذا لا تريد يا قرضاوي الشريعة الإسلامية؟! ألم تؤلف يا قرضاوي كتاباً بعنوان «وجهاًَ لوجه.. الإسلام والعلمانية» وقررت فيه ما نصه: «الآن حصص الحق، ووضح الصبح لكل ذي عينين، وتبين لكل منصف أن العلمانية لا مكان لها في مصر، ولا في ديار العروبة والإسلام، بأي منطق أو بأي معيار، لا بمعيار الدين، ولا بمعيار المصلحة، ولا بمعيار الديمقراطية، ولا بمعيار الأصالة، وأن الشبهات التي أثارها العلمانيون لا تقوم على ساق ولا قدم» فما الذي دهاك إلى هذا القول الخطير؟! وما بالها قُبلت الآن عندك بالمعايير التي كنت ترفضها بالأمس.
وأما قول القرضاوي: «لكن بمرجعية إسلامية» فهذا لا يغيّر شيئاً من الدولة المدنية المذكورة أعلاه، فهو إما من باب ذر الرماد على العيون، أو من باب أن القرضاوي وأمثاله يريدون هذا كوجهة نظر، قد تُقبل، وقد لا تُقبل، لأن الدول المدنية غير معنية بهذا.
وأقول للقرضاوي: أين ذهبت الآيات القرآنية التي كنت أنت وبقية علماء حزب الإخوان المسلمين تنزلونها على حكام العصر
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة: 44]
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }[المائدة: 45]
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[المائدة: 47]
وقوله تعالى:{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ }[الأنعام: 57]
وقوله تعالى:{ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}[الكهف: 26]وغير ذلك؟
فهل كنتم مقتنعين أن قولكم هذا من أجل الدين، أم من أجل الحزبية؟!
لأننا نرى هؤلاء - إذا كانت القضية متعلقة بحزب الإخوان المسلمين - خولوا لأنفسهم أن يقولوا حسب طلب قيادتهم، فأين هم من قوله تعالى:
{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) }[الحاقة: 44 – 47]
ومن قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}[البقرة: 159 – 160]
فكم حقاً كتموه، وباطلاً أذاعوه.
وبما سبق ذكره من بيان اتضح أن القرضاوي قد طمأن الأعداء إلى حد كبير أن الدول الجديدة التي هي في المخاض الآن ستكون على العلمانية الغربية، ومعلوم أن القرضاوي مرجعية حزب الإخوان المسلمين وهو بهذا التحول سيصير حجة للعلمانيين، وأما بقية علماء حزب الإخوان المسلمين، فإما أن يوافقوا على ما قاله القرضاوي، وهنا يقعون فيما حذر الله منه أشد تحذير قال تعالى:
{ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)}[الإسراء: 73 – 75]
وإما أن يخالفوه فسيكونون عند الحزب: هم الرجعيون السطحيون، الذين يستحقون الحرمان والهجر وغير ذلك، وهذا لن يضرهم، ونبشرهم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس»
وعلى هذا: فإني أدعوا الشيخ القرضاوي أن يتوب إلى الله من هذه الدعوة العلمانية.
وأما الإجابة عن بقية السؤال المتعلق بالمظاهرات لإسقاط دول، وجعلها جهاداً في سبيل الله؛ فقد سبق أن أصدرنا فتوى توضح أن المظاهرات المذكورة قد احتوت على جميع الشرور والفتن، فجعلها جهاد في سبيل الله من تقليب الحقائق، فكيف تكون في سبيل الله؟!! ومعلوم أن هذه المظاهرات من أجل الملك لا من أجل الدين، واللهث وراء الملك مرض خطير أبانه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:
«ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حب المال والشرف لدينه» رواه الترمذي، وهو حديث صحيح قال الحافظ ابن رجب في «ذم الجاه والمال» (ص/29):
«وأما حرص المرء على الشرف فهو أشد هلاكاً من الحرص على المال، فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها والرياسة على الناس والعلو في الأرض أضر على العبد من طلب المال، وضرره أعظم، والزهد فيه أصعب»
وأنى تكون المظاهرات جهاداً في سبيل الله وهي انتصار للحزبية التي حرمها الإسلام، وبرأ الله رسوله صلى الله عليه وسلم من أهلها قال تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)}[الأنعام: 159 ]
وعن أم سلمة قالت: «إن نبيكم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب» وهو صحيح، أليس حزب الإخوان المسلمين من جملة الأحزاب السياسية وهو عندنا في اليمن من أحزاب المعارضة.
وأنى تكون في سبيل الله وهي مظاهرات قائمة على السب والشتم واللعن، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»
وقال: «لعن المسلم كقتله»
وكيف تكون في سبيل الله وفيها ترويع المسلمين وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
«لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً»
وأنى تكون في سبيل الله وهي قائمة على التخريب، والسلب، والنهب، وسفك الدماء، وإزهاق الأرواح.
وأنى تكون في سبيل الله وقد اجتمع قطاع الصلاة والسكارى والراقصين والقتلة وغيرهم.
وأنى تكون في سبيل الله وهي تنفيذ لمطالب أعداء الله.
وكيف تكون في سبيل الله وهي قائمة على الغدر والمكر والكذب وغير ذلك.
وكيف تكون في سبيل الله والمتظاهرون تدفعهم أحزابهم إلى قتل الأنفس البريئة، وقد تتابع علماء حزب الإخوان في الدعوة إلى المظاهرات والتهييج إليها، ومنهم عبد المجيد الزنداني الذي فتن بدعوته هذه من فتن من المتظاهرين وجرأتهم على ارتكاب البوائق وتعاطي الفتك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن أنكر المنكرات وأعظم المفاسد في هذه الاعتصامات: تواجد النساء مع الرجال، فكفى بهذا الاختلاط مفسدة، فكيف إذا وُجدت الخلوة التي هي مدرجة هلاك.
فلو أنصف علماء حزب الإخوان لقالوا: إنها في سبيل الشيطان، وهي كذلك، فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في شاب خرج يكتسب: «إن كان خرج رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان»
فما بالك بمن خرج ليفعل ما ذكرنا، وأقول لعماء حزب الإخوان: لماذا ما أفتيتم بأن المظاهرات جهاد في سبيل الله إلا هذه الأيام؟!! مع العلم أن لها سنوات تقام، ولا يعرف الناس إلا أنها تقليد الكفار، فما هو السر في هذا التوقيت لهذه الفتوى؟! فما أظنه إلا أنكم ترون أنكم قد قربتم من الوثوب على الملك، فغيركم لا تفتونه بها؛ خشية أن يسبقكم إلى الملك فماذا يعني هذا؟!
وأما قولكم: «من قتل في المظاهرات إنه شهيد في سبيل الله»
فنقول لكم: هذه المسألة قد حسمها الرسول صلى الله عليه وسلم فجعل قِتلته جاهلية بقوله:
«من قتل تحت راية عمية يدعو لعصبية أو ينصر عصبية فقتلته جاهلية» رواه مسلم.
ولو أنصف علماء حزب الإخوان لوافقونا على أن قتلى المتظاهرين والمعتصمين ضحية الديمقراطية، لأن الأعمال التي يقوم بها المتظاهرون أكثرها تنفيذاً لديمقراطية الأعداء، فلا داعي لتوزيع الشهادات بالانتماء الحزبي.
وعلى كلٍ: علماء حزب الإخوان تغيرت فتواهم كثيراً إلى جهة الانحراف السياسي منذ قبلوا الحزبية السياسية - وإن كانت كل حزبية في الإسلام محرمة - حتى ركبوا الصعب والذلول، وأيضاً ضيعوا مكانتهم، وضيعوا الانتصار للإسلام حينما سلموا الأمور لقيادة الحزب السياسية، ولسنا نكفر حزب الإخوان المسلمين، ولكن نقول: زاد فيهم الانحراف منذ دخلوا في الحزبية السياسية، فقد حصل لهم مسخ خطير عما كانوا عليه قبل ذلك من خير، خصوصاً عندما قبلوا الدخول والتحالف مع الأحزاب العلمانية، ومن سار بسيرها.
وكون حزب الأخوان يريد الملك؛ فليأت الأمور من أبوابها، فلو اتقى الله، وتمسك بشرع الله صدقاً وإخلاصاً؛ لجعل الله له من القبول، ونفوذ القول بين المسلمين ما يفوق به غيره، أما هذا الطريق الذي سلكه فهو مؤد إلى خسارة في الدنيا وخسارة في الآخرة، ويكفيه عبرة ما قد حصل له في عشرات السنين من محاولات الوصول إلى الملك دون نجاح، إلى جانب ما يلحقهم من انتقامات تسببوا فيها، وإن نجحوا بهذه الطرق المشتملة على المخالفات لشرع الله، ومنها الغدر والمكر؛ فأخشى أن يسلط الله عليهم من يأخذ الملك عليهم، كما أخذوه على غيرهم بغير حق، فإن الجزاء من جنس العمل، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
«إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» متفق عليه من حديث أبي موسى رضي الله عنه.ألا وإن تواطأهم في هذ المرة مع جهات كافرة لاستلاب الحكم من الحكومات القائمة لأمر جلل، وفتح باب فتنة لا تنتهي، وقد قال الله:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس: 81].
من هنا مطوية للنشر
ومن هنا المصدر
من مشاركة لأخينا الفاضل محب السنة - جزاه الله خيراً -
في منتديات الوحيين السلفية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق