أهلاً وسهلاً و مرحباً بزوار المدونة السلفية القحطانية :: و نسأل الله أن ينفعنا و إياكم بما يُنشر في هذه المدونة من العلم النافع المستمد من الكتاب و السنة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، في أسفل هذه الصورة تجدون جديد المدونة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، في أسفل هذه الصورة تجدون جديد المدونة
صفحة الإعلانات الدعوية : سنوافيكم بما يستجد - بإذن الله -

السبت، 2 أبريل 2011

:: تحذير الأحباب من فتنة الإعجاب :: للشيخ الفاضل عبد الرحمن بن بادح العدني - حفظه الله -

 
تحذير الأحباب
من
فتنة الإعجاب

تأليف:
أبي عبد الله عبد الرحمن بن بادح العدني


بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -
صلى الله عليه وسلم‑ وبعد.

فإن العجب يحمل صاحبه على تعظيم نفسه حتى يفرح بما هو عليه، ويستغني بما عنده، فيرى أن الحق لا يصدر إلا عنه كأنه موكل به، وإذا أُعْجِبَ بنَفسِهِ واستغنى بما عنده؛ فقد تمت خسارته؛ لأنه لا يُمكن أن يلتفت إلى قول غيره فضلاً عن أن يقبله إذا كان حقَّاً.

وقد يُعجبُ المرء بِعِلمِهِ، وقد يُعجَب بماله وجماله وشرفه، وقد يُعجَب برأيه، وبما عليه من فصاحة وذكاء، وإذا ابتلاه الله ببطانة السوء أدخلوا عليه الغرور والتعالي، ورفعوا له الرايات على أنه الإمام والعالم وكم من إنسان غرَّهُ الإتِّباع وليس له في العلم باع.

فصل في ذكر الآثار من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة في ذم العُجب والتنفير عنه
:

1ـ قال الله تعالى:( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا ) [التوبة: 25].
2ـ وقال الله تعالى: ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) [الحشر: 2]فرد الله على الكفار في إعجابهم بحصونهم وشوكتهم.
3ـ وقال تعالى:( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 104]، وهذا أيضاً يرجع إلى العجب بالعمل، وقد يُعجب الإنسان بعمل هو مخطئ فيه كما يعجب بعمل هو مصيب فيه.
4ـ قال تعالى:( وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)[الزخرف: 31]، وهذا من إعجابهم بشرفهم ونسبهم فيظنون أنهم أرفع من نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم‑، فلم يقبلوا ما جاء به من الهدى.
( فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [غافر: 83].
( لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ )وهذا من إعجابهم بأنفسهم، وأنهم السادة فهم أسبق إلى كل مكرمة وخير.
( فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى )[النجم: 32].
( لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى )[البقرة: 264]، والمن نتيجة استعظام الصدقة، واستعظام العمل هو العجب.
9ـ عن أبي أمامة " قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم ‑: (لَا تَعْجَبُوا بِعَمَلِ عَامِلٍ حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ) رواه الطبراني وأحمد ، ابن أبي عاصم عن أنس وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7366).
10ـ عن أنس ‑"‑ قال - صلى الله عليه وسلم‑:(لَوْ لَمْ تَكُونُوا تُذْنِبُونَ لَخِفْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذلِكَ الْعُجْبَ الْعُجْبَ) البيهقي في "الشعب" ـ "صحيح الجامع" (5303).
11ـ عن أنس ‑"‑ قال: قال - صلى الله عليه وسلم‑: (ثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ : خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْعَدْلُ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى . وَثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ : شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ)الطبراني في "الأوسط" حسن "صحيح الجامع" (3039).
12ـ عن أبي هريرة ‑"‑ قال: قال - صلى الله عليه وسلم-:( بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) رواهُ أحمد ـ البخاري ومسلم.
13ـ عن أبي ثعلبة الخشني: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم ‑ قال:(إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ) رواهُ الترمذي وابن ماجة في "الفتن" وأبو داود في "الملاحم".
14ـ قال ابن عمر –رضي الله عنهما ‑ : (إن من صلاح توبتك أن تعرف ذنبك، ومن صلاح عملك أن ترفض عجبك، ومن صلاح شكرك أن تعترف بتقصيرك).
15ـ قال ابن مسعود ‑"‑: (الهلاك في شيئين: العُجبُ والقنوط) "مختصر منهاج القاصدين".
16ـ قال عون بن عبد الله: (لا تعجب بكثرة عملك فإنك لا تدري أَيُقبلُ منك أم لا، ولا تأمن ذنوبك؛ فإنك لا تدري أكفِّرت عنك أم لا. إن عملك مُغيَّب عنك كله).
17ـ قال مُطرِّف: (لأن أبيت نائماً، وأُصبح نادماً، أَحبُّ إليَّ من أن أبيت قائماً، وأُصبحُ معجباً). "مختصر منهاج القاصدين".
18ـ قال مسروق : (كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه) الدارمي.
19ـ قال ابن القيم : (وأما الكبر فأثر من آثار العجب والبغي من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم، وترحَّلت منه العبودية، ونزل عليه المقت؛ فنظره إلى الناس شزر ومشيه بينهم تبختر، ومعاملته لهم معاملة الاستئثار لا الإيثار، ولا الإنصاف) "الروح" (2/703).

أسباب العجب:

1ـ النشأة الأولى فقد ينشأ بين أبوين مسلمين يلمس منهما أو من أحدهما حب المحمده ودوام التزكية للنفس فيتأثر بهما، وينشأ على ذلك.
2ـ الإطراء والمدح في الوجه لحديث:[ وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ أَخِيكَ].
3ـ الوقوف عند النعمة ونسيان المنعم ـ كنعمة الجمال والغنى والعلم وقد الله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [النور: 21].

العلاج :

1ـ التذكر دائماً بحقيقة النفس الإنسانية، ومن ذلك ما قاله مطرف للمهلب لما قال له: (ألا تعرفني؟) فقال مطرف له: (نعم أعرفك أولك نطفة وآخرك جيفة قذرة وأنت بين ذلك تحمل العذرة) فسكت المهلب ولم يعد يمشي مشية المعجبين.
2ـ التذكر بنعم الله التي تغمر الإنسان وتحيط به من أعلى إلى أدنى قال الله:( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا )[إبراهيم: 34]، ( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20] فينشغل بشكرها، فمن انشغل بالشكر عليها استقل عمله ولم يعجب به.
3ـ دوام النظر في سيرة الصالحين، وكيف كانوا يتعاملون مع أنفسهم وكان الشيخ مقبل يقول: (من أعجبته نفسه؛ فلينظر في سير أعلام النبلاء).
4ـ خوف سلب النعمة: فكم من مؤمن قد ارتد ومطيع قد فسق وختم له بسوء، وكم من مرشد ضل، وكم من عالم زل. وهذا لا يبقى معه عجب بحال.
5ـ أن يرى التوفيق من الله تعالى؛ فإذا رأى أن التوفيق من الله تعالى فإنه يشغل بالشكر ولا يعجب بنفسه لأنه لا حول ولا قوة له إلا بالله.
6ـ أن يخاف أن لا يتقبل منه، فإذا انشغل بخوف عدم القبول لا يعجب بعمله.
7ـ أن ينظر في ذنوبه التي أذنب قبل ذلك، فإذا خاف أن ترجح سيئاته على حسناته؛ فقد قل عجبه، وكيف يعجب المرء بعمله، ولا يدري ماذا يخرج من كتابه يوم القيامة وإنما يثبت عجبه وسروره بعد قراءة الكتاب.

باب في بيان آفة العجب:

قال القاسمي في كتابه "موعظة المؤمنين":
(اعلم أن آفات العجب كثيرة، فإن العجب يدعو إلى الكبر؛ لأنه أحد أسبابه فيتولد من العجب الكبر، ومن الكبر الآفات الكثيرة التي لا تخفى هذا مع العباد وأما مع الله تعالى فالعجب يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها، فبعض ذنوبه لا يذكرها لظنه أنه مستغنٍ عن تفقدها، وما يتذكره منها فيستصغره فلا يجتهد في إزالته بل يظن أنه يُغفر له.
وأما العبادات والأعمال فإنه يستعظمها، ويمن على الله بفعلها وينسى نِعَمَهُ عليه بالتوفيق والتمكين منها، ثم إذا أعجب بها عمي عن آفاتها، وذلك أن المعجب يغترّ بنفسه وبرأيه ويأمن مكر الله وعذابه، ويظن أنه عند الله بمكان، وأن له عنده منَّه وحقَّاً بأعماله التي هي من نعمه، ويخرجه العجب إلى أن يُثني على نفسه ويحمدها ويزكيها، وإن أُعجب برأيه وعمله وعقله منع ذلك من الاستفادة، ومن الاستشارة والسؤال فيستبد بنفسه ورأيه ويستنكف من سؤال من هو أعلم منه، وربما يُعجَب بالرأي الخطأ الذي خطر له؛ فيفرح بكونه من خواطره، ولا يفرح بخواطر غيره فيُصرُّ عليه ولا يسمع نصح ناصح ولا وعظ واعظ، بل ينظر إلى غيره بعين الاستجهال ويُصرُّ على خطاياه.
فهذا وأمثاله من آفات العجب، فلذلك كان من المهلكات، ومن أعظم آفاته أن يغترَّ في السعي لظنه أنه قد استغنى وهو الهلاك الصريح نسأل الله العظيم حسن التوفيق لطاعته). إهـ صـ(378-379).

فصل في نقل مقتطفات من كلام أهل العلم في التحذير من العجب:

1ـ قال القاسمي في موعظة المؤمنين: (الثامن العجب بالرأي الخطأ قال تعالى:( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا ) [فاطر: 8]، وقال تعالى:( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 104] ، وقد أخبر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أن بذلك هلكت الأمم السالفة إذ افترقت فرقاً، وكل معجب برأيه ( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) [الروم: 32].
وعلاجه أن يتهم رأيه أبداً فلا يغتر به إلا أن يشهد له قاطع من كتاب أو سنة أو دليل عقل سليم جامع لشروط الأدلة، ولن يعرف الإنسان أدلة الشرع والعقل وشروطها ومكامن الغلط فيها إلا بقريحة تامة، وعقل ثاقب، وجد وتشمير في الطلب، وممارسة للكتاب والسنة، ومجالسة لأهل العلم طول العمر، ومدارسته للعلوم، ومع ذلك فلا يؤمن عليه من الغلط ......). صـ(382).
2ـ قال ابن قدامة المقدسي : في كتاب "مختصر منهاج القاصدين" في
صـ 225: (فأما أهل العلم، فالمغترون منهم فرق:ـ
منهم فرق أحكموا العلوم الشرعية والعقلية، وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي، وإلزامها الطاعات، واغتروا بعلمهم، وظنوا أنهم من الله بمكان، ولو نظر هؤلاء بعين البصيرة؛ علموا أن علم المعاملة لا يُراد به إلا العمل، ولولا العمل لم يكن له قدر. قال الله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا )[الشمس: 9]، ولم يقل قد أفلح من تعلم كيف يزكيها فإن تلا عليه الشيطان فضائل أهل العلم؛ فليذكر ما ورد في العالم الفاجر كقوله تعالى:( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) [الأعراف: 176] و( كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)[الجمعة: 5].
ومنهم فرقة أخرى أحكموا العلم والعمل الظاهر، ولم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا الصفات المذمومة منها، كالكبر والحسد والرياء، وطلب العلو، وطلب الشهرة، فهؤلاء زينوا ظاهرهم، وأهملوا بواطنهم، ونسوا قوله ‑ص: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ).
فتعاهدوا الأعمال، ولم يتعاهدوا القلوب، والقلب هو الأصل إذ لا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم.
ومثال هؤلاء كمثل رجل زرع زرعاً؛ فنبت ونبت معه حشيش يفسده، فأمر بقلعه، فأخذ يجز رؤوسه وأطرافه، ويترك أصوله، فلم تزل أصوله تقوى.
وفرقة أخرى علموا أن هذه الأخلاق الباطنة مذمومة إلا أنهم بعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها، وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك، فإنما يُبتلى بذلك العوام دون من بلغ مبلغهم من العلم، فإذا ظهر عليهم مخايل الكبر والرياسة، قال أحدهم: ما هذا بكبر، وإنما هو طلب عز الدين، وإظهار شرف العلم، وإرغام المبتدعين، فإني لو لبست الدون من الثياب، وجلست في الدون من المجالس شمتت بِي أعداء الدين وفرحوا بِذُلِّي، وفي ذُلِّي ذُلُّ الإسلام، وينسى الغرور، وأن إبليس هو الذي يُسَوِّل له هذا بدليل أن النبي ‑ص‑ وأصحابه كانوا يتواضعون ويُؤثِرون الفقر والمسكنة.
وقد روَينا عن عمر بن الخطاب ‑ا‑ أنه لما قدم الشام عرضت له مخاضه، فنزل عن بعيره، ونزع خُفَّيه وأمسكهما، وخاض الماء، ومعه بعيره فقال له أبو عبيدة: لقد صنعت اليوم صُنعاً عظيماً عند أهل الأرض، فصك في صدره وقال: أوَّه لو غيرك يقول هذا يا أبا عُبيدة.
إنكم كنتم أذل وأحقر الناس، فأعزَّكم الله برسوله، فمهما تطلبوا العز بغيره يُذلكم الله.
وفرقة أخرى أحكموا العلم وطهَّروا جوارحهم وزيَّنوها بالطاعات، وتفقَّدوا قُلوبهم بتصفيتِها من الرياء والحسد والكبر، ونحو ذلك ولكن بقيت في زوايا القلب خفايا من مكائد الشيطان وخدع النفس لم يفطنوا لها وأهملوها، فترى أحدهم يُسْهِرُ لَيلَهُ ويُنصِبُ نهاره في جمع العلوم وترتيبها، وتحسين ألفاظها، ويرى أن باعثه على ذلك الحرص على إظهار دين الله تعالى، وربما كان الباعث لذلك طلب الذكر وانتشار الصِّيت، ولعلَّهُ لا يخلو في تصنيفِهِ من الثَّناء على نفسه، إمَّا صريحاً بالدَّعاوى الطويلة العريضة. وإمَّا ضمناً بالطَّعنِ في غيره أنهُ أفضل من ذلك الغير، وأعظم منه علماً.
فهذا وأمثاله من خفايا العيوب التي لا يفطن لها إلا الأكياس الأقوياء، ولا مطمع فيه لأمثالنا من الضعفاء إلَّا أنَّ أقل الدرجات أن يعرف الإنسان عيوب نفسه ويحرص على صلاحها.
ومن سرَّتهُ حسنته، وساءته سيِّئَتُه؛ فهو مرجوٌّ أمره، بخلاف من يُزكِّي نفسه ويظن أنَّهُ من خيار الخلق. فهذا غرور الذين حصَّلُوا العلوم المهمة، فكيف بالذين قنعوا من العلوم بما لا يهمهم وتركوا المهم). إهـ باختصار.
3ـ قال ابن القيم ‑/ في "مدارج السالكين" في مرتبة المحاسبة:ـ
((..... وأما سوء الظن فإنما أحتاج إليه؛ لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش، ويلبس عليه، فيرى المساوئ محاسن، والعيوب كمالاً، فإنَّ المُحب يرى مساوئ محبوبه وعيوبه كذلك.
فعيــن الرضــا عــن كــل عيــبٍ كليلــةٌ

كمــا أنَّ عيــن السخُّــطِ تُبــدي المساويــا

ولا يُسيءُ الظن بنفسه إلَّا من عرفَهَا، ومن أحسن ظنَّهُ بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه.
وأما تمييز النعمة من الفتنة: فليفرِّق بين النعمة التي يرى بها الإحسان واللُّطف ويُعان بها على تحصيل سعادته الأبديَّة، وبين النعمة التي يرى بها الاستدراج، فكم من مُستَدْرَج بِالنِّعم وهو لا يشعر، مفتون بثناء الجُهَّال عليه، مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه، وأكثر الخلق عندهم: أنَّ هذه علامة السعادة والنجاح، ذلك مبلغهم من العلم.
فإذا كملت هذه الثلاثة فيه عرف حينئذٍ أن ما كان من نعم الله عليه بجمعه على الله فهو نعمة حقيقيَّة، وما فرَّقه عنه وأخذه منه، فهو البلاء في صورة النعمة، والمحنة في صورة المنحة. فليحذر إنما هو مستدرج، ويُميِّز بذلك أيضاً بين المِنَّة والحُجَّة فكم تلتبس إحداهما عليه بالأخرى!
وقال أيضاً: (ومن تمام هذا التمييز أن يعلم أنَّ رضا العبد بطاعته دليل على حُسن ظنه بنفسه، وجهلهِ بحقوق العبودية، وعدم عمله بما يستحقُّهُ الرَّبُّ جَلَّ جلالُهُ، ويليق أن يعامل به.
وحاصل ذلك أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله، وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به، يتولَّد منهما رضاه بطاعته، وإحسانه ظنه بها، ويتولَّد من ذلك: من العُجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنا وشرب الخمر، والفرار من الزَّحف ونحوها، فالرِّضا بالطَّاعة من رعونات النفس وحماقتها.
وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفاراً عُقيبَ الطَّاعات، لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية، ولا رضيها لسيِّده.
وقال أيضاً: ((.... ولا يكمل هذا المعنى إلَّا بِأن تربأَ بنفسك عن تعيير المُقصِّرين، فلعل تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثماً من ذنبه، وأشد من معصيته، لما فيه من صولة الطاعة، وتزكية النفس، وشكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب، وأن أخاك باء به، ولعلَّ كسرته بذنبه، وما أحدث له من الذل والخضوع، والإزراء على نفسه، والتخلص من الدعوى، والكبر والعجب، ووقوفه بين يدي الله ناكس، خاشع الطرف، منكسر القلب أنفع له، وخير من صولة طاعتك، وتكثُّرك بها والاعتداد بها، والمنة على الله وخلقه بها. فما أقرب العاصي من رحمة الله! وما أقرب هذا المُدلُّ من مقت الله. فَذنبٌ تَذِلُّ به لديه، أحب إليه من طاعة تُدِلُّ بها عليه، وإنك إن تبيت نائماً وتصبح نادماً، خير من أن تبيت قائماً وتصبح معجباً، فإن المعجب لا يصعد له عمل. وإنك أن تضحك وأنت معترف، خير من أن تبكي وأنت مُدِلٌّ، وأنين المُذنبين، أحبُّ إلى الله من زجل المُسبِّحين المُدلِّين، ولعلَّ الله سقاه بهذا الذنب دواءً استخرج به داءً قاتلاً هو فيك ولا تشعر.
انظر: "تهذيب مدارج السالكين" للعزي.

فصل فيذكر الآثار عن السلف في الازراء بالنفس والتحقير من شأنها
من "سير أعلام النبلاء":

1ـ عن الحارث بن سويد قال: (أكثروا على عبد الله بن مسعود يوماً، فقال: والله الذي لا إله غيره لو تعلمون علمي؛ لحثيتم التراب على رأسي). (1/495).
2ـ عن ميمون أبي جمرة الأعور قال: (قال لي إبراهيم: تكلَّمت ولو وجدتُ بُدَّاً لم أتكلَّم، وإنَّ زماناً أكون فيه فقيهاً لزمان سوء). (4/526).
3ـ قال أيوب: (إذا ذكر الصالحون كنت منهم بمعزل). (6/22).
4ـ قال يحيى ابن معين: (ما رأيت مثل أحمد، صحبناه خمسين ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير). (11/214).
5ـ عن رجل قال: (رأيتُ أثر الغم في وجه أبي عبد الله، وقد أثنى عليه شخص، وقيل له: جزاك الله خيراً. قال: بل جزى الله الإسلام عني خيراً من أنا وما أنا). (11/225).
6ـ عن سعيد المؤدب قال: (قلت لأبي بكر الخطيب عند قدومي: أنت الحافظ، فقال: انتهى الحفظ إلى الدار قطني). (18/281).
7ـ قال خطاب بن بشر: (سألت أحمد بن حنبل عن شيء من الورع؛ فتبين الاغتمام عليه إزراءً على نفسه). (11/225-226).
8ـ قال محمد بن عبدة بن سليمان: (كنت مع أبي نعيم، فقال له أصحاب الحديث: يا أبا نعيم، إنما حملت عن الأعمش هذه الأحاديث، فقال: ومن كنت أنا عند الأعمش، كنت قرداً بلا ذنب). (10/146).
9ـ قال محمد بن الحسن بن هارون: (لو رأيتَ أبا عبد الله إذا مشى في الطريق، يكره أن يتبعه أحد). (11/226).
10) سئل يوسف بن أسباط: (ما غاية التواضع؟ قال: أن لا تلقى أحداً إلَّا رأيت له الفضل عليك). (9/170).
انظر: "تحفة العلماء من سير أعلام النبلاء".

وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وكتبه: أبو عبد الله عبد الرحمن بن بادح العدني

العريش - عدن - اليمن
بتاريخ يوم الإثنين 11 ربيع أول 1432 هـ الموافق 14 فبراير 2011 م


ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لـ © المدونة السلفية القحطانية